سبحانه هو الغني

۞ سبحانه هو الغني ۞

بسم الله الرحمن الرحيم

وجوب معرفة الله تعالى باسمه الغني:

قال تعالى: ( اعلموا أن الله غني حميد ) وهذا أمر من الله تعالى بأن نعلم أنه هو الغني، وهذا يستلزم معرفة المعنى والعمل بما يستلزمه ذلك ودعاءه به كما قال تعالى: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) .
فهل تعرفت على هذا الاسم من أسماء الله الحسنى ووقفت على معانيه ؟ أم هو مجرد معرفة اللفظ وتلاوته بلا تدبر ولا تذوق لمعناه ؟
ورد الغني في القرآن الكريم:
ورد هذا الاسم المبارك في كتاب الله عز وجل في ثمانية عشر موضعًا ، كالتالي: مطلقًا معرفًا بالألف واللام: الغني: مرتين مقرنًا باسم الله ( الحميد ) في عشرة مواضع.
ومع ( الحليم ) مرة واحدة ومع ( الكريم ) مرة واحدة .
ومع ( ذو الرحمة ) مرة واحدة ( غني عنكم ) مرة واحدة .
وورد الفعل المشتق منه في مواضع وورد في السنة أيضًا كما سيأتي في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.
معنى ( الغني ) : من الفعل غَنِيَ يَغْنَى غِنَىً وغَنَاءً فهو الغني وفعيل معنا بمعنى فاعل أي (غان ) ومعنى الكلمة في اللغة يعود إلى الإجزاء والكفاية.
فهو الغني أي المستغني عن كل من سواه الذي لا يحتاج إلى أحسن من خلقه في شيء إطلاقًا لكمال غناه عن الخلق مما له صفات الكمال ونعوت الجلال، فلا يحتاج إلى شيء ولا يضطر إلى شيء ولا يُقهر على شيء البتة.
وعلى هذا المعنى فإنه يعود إلى التنزيه أي الاستغناء الكامل عن الحاجة إلى أحد من خلقه وهذا يستلزم الإثبات فإنه استغنى لكماله عز وجل وكماله من صفات ذاته فلم يكمل بالخلق بل هو غني عن الخلق وإنما خَلَق لما له من الكمال وهذا الإثبات يستلزم أنه هو الذي يغنى من شاء من خلقه بما شاء ( وأنه هو أغنى وأفنى ) فهو المغني عز وجل وهذا ليس من باب التسمية وإنما من باب الإخبار لأن الحديث الذي ورد فيه اسم ( المغني ) عند الترمذي لسند ضعيف.

۞وقفه مع هذا المعنى للغَنِيّ
قال تعالى: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )
فالغنيُّ على الحقيقة ليس إلا الله سبحانه وتعالى وكل من عداه فهو فقير على الحقيقة فقراً ذاتياً لا ينفك عنه طرفة عين كما أن غِنى الله ذاتي لا لعلة أوجب غناه
وهو الغني بذاته فغناه ذا تي له كالجود والإحسان
فلا يكون ( الرب ) إلا غنيًا ولا يكون المخلوق إلا فقيرًا .

۞ وخلاصة المعنى:
أن الله عز وجل غني عن كل ما سواه غنى مطلقًا ذاتيًا حقيقيًا من جميع الوجوه، فهو مستغنٍ عنهم غير محتاج إليهم، ولا غنيَّ على الحقيقة إلا هو ( سبحانه هو الغني ) إذ كل من عداه فهو فقير محتاج إليه في كل شيء لا يستغني عنه في شيء إطلاقًا.
فهو واهب الغنى لمن شاء من خلقه وهذا الغِنى الموهب ليس غِنى مطلقًا، فصحبه لا يستغني عن المسبب لغناه الذي وهبه إياه فهو فقير على الحقيقة !
فهو الغني بمعنى المستغني وهذا تنزيه وهو الغنى بمعنى ( ذو الغني ) وهذا إثبات وهو المغني لمن شاء من خلقه سبحانه وتعالى . والله تعالى أعلم .
من مظاهر غناه عز وجل ( بالمعنى الأول ) وهو الأصل ( التنزيه ).

۞غناه عن الولد:
قال تعالى: ( قالوا اتخذ الله ولدًا ) وهو من أعظم الظلم والكفر أن ينسبوا لله عز وجل الولد لأنهم نسبوا له النقص بذلك، فهل الله عز وجل محتاج إلى الولد ليتكثر به من قلة أو يتعزز به من ذلة أو يرثه بعد موته أو يساعده عن ضعفه فهذا ظن السوء برب العالمين لذا نزه نفسه عن ذلك فقال ( سبحانه هو الغني ) فالغني لا يحتاج إلى شيء ولدًا أو غيره فمن أيقن أن الله هو الغني لم ينسب إليه الولد لكمال غناه عن الخلائق أجمعين.

۞غناه عن الصاحبة:
قال تعالى: ( ولم تكن له صاحبة ) وقال أيضًا ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ) فالغني عز وجل الغِنَي الكامل لا يحتاج إلى صاحبة ليستأنس بها من وحشة ؟! أو يتخذ منها الولد ؟! وهذا ينافي غناه عز وجل
غناه عن الشريك والظهير:
قال تعالى: ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير )
وهذا مقتضى الغنى التام أن يستغني عن الشريك وعن الظهير والمعاون والوزير فلا يعجزه شيء ولا يحتاج إلى من يعينه في تدبير أمر المملكة لعجز أو جهل أو ضعف بل هو الغني عن العالمين.
غناه عن الشفيع ( الأقطاب والإبدال ):
وهل يحتاج إلى شفيع ليخبره بما غاب عنه أو جهله من أمر المشفوع له فالله هو علام الغيوب، وهل يحتاج إلى الشفيع ليحننه أو يستعطفه على خلقه لقسوة فيه ؟! فالله عز وجل هو ( أرحم الراحمين ) .
وهل يحتاج إلى شفيع ليقدم له خدمات في مقابل خدمات كما هو في حال البشر فالله منزه عن ذلك إذن فهذا النوع من الشفاعة فنفى في كتاب الله عز وجل ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )
وهذا الخلاف الشفاعة التي هي محض فضل ورحمة من الله عز وجل رحمة بالمشفوع له وإكرام بالشفيع من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى!.

۞غناه عن جميع الخلق:
لمن يحتاج إلى الخلق في شيء، فصفات الله أزلية أبدية لم يزد وبالخلق كمالاً بل له الكمال المطلق قبل الخلق وبعده.

۞ غناه عن العرش وحملته:
( إن الله غني عن العالمين ) فهو لا يحتاج إلى العرش ولا حملته ولا الكرسي ولا سعته وعظمته بل العرش وحملته والكرسي وسعته الكل محمول بقدرته، مقهور بقبضته فلا العرش لا يحمله ولا الكرسي يسنده وهذا فيه رد على المجسمة الذين يقولون إنه استوى كاستواء البشر بل استوى استواءً يليق بجلاله عز وجل ويناسب غناه فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة ضلالة.

۞ غناه عن عبادة العابدين:
والله عز وجل غني عن عبادة العابدين وصدق الصادقين وإخلاص المخلصين وصلاة المصلين وإنفاق المنفقين وحج الحاجين وجهاد المجاهدين ( واستغنى الله والله غني حميد ) وإليك شيء من التفصيل:
۞ غناه عن الحج والعمرة:
قال تعالى: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) فهذا العمل العظيم نفعه في الدنيا والآخرة لصاحبه ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) فالعبد هو المنتفع بحجه أما الله (فإن الله غني عن العالمين) سواءً منهم من حج ومن لم يحج.

۞ غناه عن نفقة المنفقين:
قال تعالى: ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنك من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ) علامَ يبخل الإنسان، إن مالك هذا المال هو الله عز وجل وقد أمرك بالنفقة منه فلماذا البخل ؟ هل تملك مع الله شيئًا؟ أحسبت أن لك نصيبًا عن الملك ؟ أظننت أنك استغنيت هل نسيت أصلك وفقرك الذاتي وأن المال إنما هو عارية من الله لك (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ، (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) فالمال مال الله وأنت عبد الله فلماذا البخل ؟ إنما هو إشقاء العبد لنفسه وإتعاسه لها أما الله عز وجل فاسمع بعدها ( والله الغني وأنتم الفقراء ) فهو الغني عن الحقيقة وأنتم الفقراء على الحقيقة.

۞ غناه عن جهاد المجاهدين:
قال تعالى: ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله الغني عن العالمين )
الجهاد ذروة سنام الإسلام، والشهداء في سبيل الله في أعلى الدرجات فإن منَّ الله عليك بذلك فلا تظنن أنه محتاج إلى جهادك لنصر دينه بل ( لو شاء الله لانتصر منهم ) بنفسه عز وجل بدون أسباب بقوله للشيء كن فيكون ( ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) فاستمع إلى الغني عز وجل ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) !.

۞ غناه عن إيمان المؤمنين:
قال تعالى: ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ) نعم يا ربنا فلست في حاجة إلى إيماننا فأنت الغني ونحن الفقراء إليك فالكفر لا يضره وإنما يضرنا نحن والطاعة لا تنفعه وإنما تنفعنا نحن فما سر المسألة ؟
والجواب: سر المسألة أنه الرحمن الرحيم ( لا يرضى لعباده الكفر ) لا يحبه لهم لما فيه من خسران العبد في الدنيا والآخرة ( وإن تشكروا يرضه لكم ) فهو يحب منا ذلك فهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا قال تعالى : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعًا فإن الله لغني حميد ) !

۞ ومن مظاهر غناه – عز وجل – بالمعنى الثاني ( الإثبات )
إن الغني من الناس من يملك كذا وكذا من المال فتأمل غنى قارون بل كل القوارين على وجه الأرض كم ملكوا من الأموال والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهذا أمر قد تنبهر بعض العقول ويقال عنهم ( أغنى الأغنياء )؟!
( ولله المثل الأعلى ) فانظر لمن ملك السماوات العلا والأرضين وما بينهما وما فيهما من مجرات وكواكب ميزات ونجوم زاهرات وبحار زاخرات وأنهار ومحيطات وأشجار ونباتات وطيور وحيوانات وجبال ومعادن وهواء وماء ...
كم ثمن هذا وكم قيمته ؟
إن الكلمات تعجز عن وصف هذا الغني فلا يسعنا إلا أن نصفه بما وصف به نفسه (سبحانه هو الغني ) .

إنك إذا رأيت الرجل ينفق نفقة كثيرة هنا وهناك ويطعم ويبني ويعول ويساعد هذا وذاك لم ينقضِ عجبك من غناه، فهلا نظرت إلى ما أنفق مولاك منذ خلق السماوات والأرض وكم ساق من أرزاق وكم قسم من أقوات والعباد كلهم يسألونه ضروراتهم فيجيبهم (يسأله من في السماوات والأرض ) ومَن غيره يجيبهم ؟ (وما بكم من نعمة فمن الله ). (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) أفليس هو الغني على الحقيقة ( سبحانه هو الغني ) ثم قف أمام هذين الحديثين الجليلين لتقف على بعض هذا المعنى للغنى:
الأول: قال الله تعالى: ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأن أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم )
خزائن الهداية بيده وخزائن الأرزاق في قبضته وخزائن الرحمة كل بالمشيئة ألا تطلبها من مالكها الغني الذي يعطي الجميع ولا يبخل ( إن ربي غني كريم )
ثم استمع:
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا !!.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً !!!
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحدٍ فسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر !!!.
الثاني: ( يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أنظروا إلى ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يفض ما في يمينه )
سبحانك ربنا أنت الغني ؛ الغني ؛ الغني ؛ .......

۞ فقر العباد ذاتي لا ينفك عنهم:
قال ابن القيم رحمه الله: ( فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمراً مشهوداً محسوساً لكل أحد ومعلوم أن هذا من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها وهو لم ينتقل من هذه المرتبة إلى رتبة الربوبية والغني بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إلى بارئه وفاطره عز وجل.
فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق له السمع والبصر والفؤاد وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحوش العادية وحفر الأنهار وغرس الأشجار وشق الأرض وتعلية البناء والتحيل على مصالحه والتحرز والتحفظ مما يؤذيه ظن المسكين أن له نصيباً من الملك فادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى ونسى ما كنا فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة متى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج بل كان شخصاً آخر غيره.
ومن هنا خذل من خذل ودفق من دفق، فحجب المخذول في حقيقته ونسى نفسه فنسى فقرة وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا فحقت عليهم الشقاوة قال تعالى: ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )
فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهوداً لفقرة وجبروته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عند طرفة عين )

قال شيخ الإسلام:
الفقر لي وصف ذات لازم أبدًا ***** كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي
فغناه عز وجل ثابت له لذاته لا لأمر واجبه، وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا أمكان بل هو ذاتي وكذلك غنى الرب عز وجل لذاته لا لأمر أوجب غناه سبحانه وتعالى.

۞ حال الفقير مع ربه الغني الحميد:
الذي هو مضطر إليه مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته باطنًا وظاهرًا فاقته تامة إليه ومع ذلك فهو متخلف عنه معرض عنه يتبغض إليه بمعصيته مع شدة الضرورة إليه من كل وجه قد صار لذكره نسياً واتخذه وراءه ظهرياً، هذا وإليه مرجعه وبين يديه موقفه.
أنواع الفقر: الفقر نوعان:
۞ الأول: فقر اضطراري إلى ربوبية الله: وهو فقر عام في المخلوقات بأسرها ولا خروج لبر ولا فاجر عنه وهذا الفقر لا يقتضي مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً ومصنوعاً.
۞ والثاني: فقر اختياري: وهو فقر إلى ألوهيته عز وجل وهو فقر المصطفين من الأنبياء والرسل والصالحين وهذا هو الفقر النافع بل هو عين الغنى وعنوان السعادة والفلاح !

۞ كيفية تحصيل الفقر النافع:
هذا الافتقار إلى الله عز وجل نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه والثاني معرفته بنفسه فمن حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه وعنوان سعادته وفلاحه فمن عرف ربه بالغنى التام المطلق عرف نفسه بالفقر التام المطلق ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.

۞ أنواع الغنى:
الغنى قسمان: غنى سافل ، وغني عالٍ
فالغني السافل: الغني بالعوارى المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ... وهذا أضعف الغنى فإنه غنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أصحابها كأنها حلم فانقضى أو سحابة ضعيف أو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وهذا غني أرباب الذي فيه يتنافسون وإياه يطلبون وحوله يحومون وهذا الغنى محفوف بفقرين فقر قبله وفقر بعده وهو كالغفوة بينهما.
فحقيق لم نصح نفسه ألا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه بل إذا حصل له جعله لغناه الأكبر ووسيلة ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أعز عليه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق أو يجعلها خادماً لغيره.

۞ الغنى العالي: وهو ثلاث درجات:
۞ الأولى: غنى القلب عن الافتقار إلى الأسباب وشهودها والاعتماد عليها والركون إليها والثقة بها استغناءً بالمسبب بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله سبحانه.
۞ الثانية: غنى النفس عن مراءاة الخلق بالعبادات بأن تستقيم على فعل الطاعة وترك المعصية تعظيماً لله سبحانه وأمره وإيماناً به واحتساباً لثوابه وخشية من عقابه لا طلباً لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربًا من ذمهم وازدرائهم وطلبًا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد منه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق، فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها.
۞ الثالثة: الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهي أعلى

۞ درجات الغنى.
فأول هذه الدرجة: أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك قبل ذكرك وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك، وذكرك فقدر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً البتة وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله قال تعالى ( هو سماكم المسلمين من قبل ) وذكرك باليقظة حين استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام وذكرك بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك ثم أنظر إلى ذكرك بنعمة المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونفس، فمن شاهد هذا وشغل قلبه حصل لقلبه غنى عالٍ لا يشبهه شيء .. أ.هـ.

۞ ثمرات الإيمان باسم الله " الغني "

1- تحقيق التوكل على الله:
قال ابن القيم رحمه الله: فإن القلب إذا سلم من السبب أي من الفقر إليه وشهوده والاعتماد عليه والركون إليه والثقة به، فمن كان معتمداً على السبب واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني لأنه فقير إلى الوسائط بل لا يسمى غنياً إلا إذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره فلذلك يصير صاحبه غنياًَ بتدبير الله سبحانه.
قلت: وهذه هي حقيقة التوكل.
فمن افتقر إلى الغنى عز وجل واستغنى عن غيره فقد حقق التوكل ولله الحمد والمنة.

2- الإخلاص:
وذلك بأن تكون الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله سبحانه وأمره وإيماناً به واحتساباً لثوابه وخشية من عقابه لا طلباً لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهرباً من ذمهم وازدرائهم وطلباً للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد منه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق، فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها.
قلت: فإذا حققت ذلك واستغنيت عن مدح الناس وذمهم كانت أعمالك خالصة لوجه الله عز وجل لا رياءً ولا سمعة. والله أعلم .

3- المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم :
فمن آمن باسم الله " الغني " على يقيناً أن شريعته الغراء مستغنية عن إحداث المحدثين وابتداع المبتدعين فدين الله كامل لا يحتاج لشيء (اليوم أكملت لكم دينكم) وبالتالي فهو أحرص الناس على السنة واتباع الهدي النبوي ولا يلتفت إلى الضلالات والجهالات والانحرافات عن الصراط المستقيم، حتى يصير هذا منهاجه في حياته كلها فهو يعلم: أن الله كما أغناه بما شرعه لنا من الحنيفة السمحة وما يسره لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال فقد أغنانا بأعياد الكفار والمشركين وعبدة الصلبان.
وأغناه بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار.
وأغناه بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع عن الزنا والفواحش.
وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة النافعة للقلب والبدن عن الأشربة المسكرة المذهبة للعقل والدين.
وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة من الكتان والقطن والصوف عن الملابس المحرمة على الرجال كالذهب والحرير.
وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام والتنجيم باستخارته التي هي توحيد وتفويض واستعانة وتوكل.
وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية عن الفروسية الشيطانية وحمية الجاهلية.
وأغنانا بالاعتكاف الشرعي عن الخلوات البدعية.
وأغنانا بالأدلة الشرعية من الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية.
وأغنانا بالطرق الشرعية لتحقيق الخلافة الإسلامية عن الطرق المردية المستمدة من بلاد الكافرين.
وأغناها بما شرعه لنا من منهاج الدعوة النبوة عن إحداث مناهج بدعية لتحقيق هذا العرض.
كما أغنانا بلزوم الجماعة عن التشتت والافتراق بالانتساب إلى جماعات وفرق وأحزاب.
فالحمد لله رب العالمين على هذا الخير العميم الذي هو أثر من آثار اسمه (الغني) جل ثناؤه وتقدست أسماؤه.
4- الانكسار والذل لله عز وجل:
لأنه مهما حصل من خير في الدنيا والدين وقدم من طاعات وقربات فإن مصدرها والمانُّ بها عليه هو ربه الغني. أما هو فقير لا قدرة له على شيء فلا يزال يشاهد ذلك حتى لا يرى لنفسه فضلاً ولا عملاً ولا إحساناً بل الله هو الذي وفقه وهداه وسدد خطاه فينكر لربه ويزل له ولا يعجب بنفسه ولا يرى عمله البتة.
5- التواضع للخلق وعدم المنّ عليهم:
كما سبق فهو مستخلف في هذا المال فلم يكن يومًا ولن يكون غنيًا بنفسه وذاته بل هو فقير بنفسه وذاته وصاحب المال أمره بأن ينفق على عباده فما هو إلا خازنه، فكيف يدل بعمله أو يمن به عليهم وهم في الفقر سواء وفي العبودية لرب الأرض والسماء أكفاء ؟.

6- الصبر عند المصائب:
قال تعالى: ( وما بكم من نعمة فمن الله ) فجميع النعم التي يتمتع بها العبد فهي ملك لله الغني وإنما أعارها للعبد الفقير فإذا استرد المالك شيئاً من ملكه في أي وقت فكيف يغضب المستعير ؟!.
إنه لمن يغضب قط إلا إذا نسى فقرة الذاتي، وعندها ظن إنه له نصيباً من الملك أو شارك الله فيما أعطاه فيغضب إذا أصيب بمصيبة وربما يتسخط على قدر الله وربما مات كمدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

7- القناعة:
فقد قال ( ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس )
ورحم الله الشافعي حيث يقول:
رأيت القناعة رأس الغني *** فصرت بأذيالها ممسك
فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك
فصرت غنياً بلا درهم *** أمر على الناس شبه الملك
فمن افتقر إلى الله حق الافتقار وعلم أنه الغني على الحقيقة فلا غنى على الحقيقة إلا هو استغني عن الخلق جميعاً وزهد فيما في أيديهم.
والله المستعان.

۞ كيف ندعو الله باسمه الغني:
قال تعالى: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها )
1- دعاء الثناء: بأن نعلم هذا الاسم ونفهم معناه أولاً ونتأمله جيداً ونقف عنده مليًا ونثني على الله عز وجل به بألسنتنا بأنك يا ربنا أنت الغني ونحن الفقراء إليك وأن نعلمه للناس وننشره بينهم لتعرفوا على ربهم عز وجل فيحب الناس ربهم فيسعدوا في الدنيا والآخرة وهذا من أعظم الدعاء – دعاء الثناء فتصلح بين الخلق وربهم عز وجل شأن المرسلين وعباد الله الصالحين. قال تعالى: (واعلموا أن الله غني حميد )
2- دعاء العبادة: أن تحول هذه المعاني إلى واقع حياة ومنهج حياة فيظهر ذلك في استغنائك بالله عمن سواه وافتقارك إلى الله في كل شيء وتحقق الإخلاص والتوكل والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم كما سبق.
3- دعاء المسألة: أن تسأله من فضله فقد علمت أنه الغني الذي له ملك السماوات والأرض وخزائن كل شيء من الدنيا والدين بيده، ومقاليد كل شيء في قبضته فترفع أكف الضراعة وتقول: ( اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك ) ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) ( اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك ) ( اللهم إني أسألك من فضلك العظيم ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله علي نبينا محمد وآله وسلم.
..............................
وكتبه فضيلة الشيخ / أبو طارق محمود محفوظ
1 محرم 1428 هـ
_________
رابط موقع الشيخ حفظة الله تعالي ↓↓ـــ↓↓ـ
← ( http://mahfoouz.com/index.html ) ..
_______________
#abou゚moaz
شاركه على جوجل بلس

عن الكاتب العلوم الشرعية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق